قالت نملة ..
في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾(النمل:18) لفتات ولفتات... فعندما جاء سليمان عليه السلام ومعه جنده، أحسّت نملة بالخطر الداهم على قومها وبني جنسها، فصاحت منذرة: إن الخطر قادم، فهيّا أنقذوا أنفسكم: ﴿لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾(النمل:18).
ما أروع هذه النملة، وما أعظم هذا الموقف الذي وقفته؛ حملت همّ أمتها، أدركت ثقل مسؤوليتها، أحسّت بقدوم الخطر قبل وصوله، فقامت صائحة معلنة لبني قومها: إن الخطر قادم فهلموا أنقذوا أنفسكم. لم تهرب هذه النملة وتنقذ نفسها عندما أحسّت بالخطر.. لم تقل: ماذا يمكنني أن أفعل لوحدي أمام هذا الجيش العظيم؟ بل إنها اعتبرت نفسها حارسة أمام قومها وما رضيتْ أن يمسهم أي سوء صغير كان أم كبير. نعم، نملة كرّست نفسها لحماية أشقائها من الأخطار.. هذا وإن الخطر الذي يهدد أمتنا، أعظم من الخطر الذي هدد نمل سليمان بكثير..
فمَن منّا يحسّ إحساس هذه النملة ويسعى لإنقاذ أمته أو ويتلهّف على حياتها؟ مَن منّا يقوم وينام وهو يحمل هموم هذه الأمة التي يحدق بها الخطر يمنة ويسرة؟ إنه ليس بخطر واحد، بل أخطار من كل صوب:﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾(النور:40). هذا من جانب، ومن جانب آخر يقول تعالى: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ أي، يستخدم النملة بصيغة النكرة، فلم يقل: "قالت النملة"، إنما قال: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾. إذن هي نكرة.. هل هي الملكة أم غير الملكة؟ المهم أنها وردت في القرآن بصيغة النكرة. فهي نملة من هذا الوادي الطويل العريض، ومع ذلك لم تحقر نفسها.. أما نحن فلا زلنا نتساءل أنْ؛ ماذا فعل أهل الحل والعقد؟ ماذا فعل فلان وفلان؟ نرمي المسؤولية أو الذنب والأخطاء على عاتق غيرنا، ونحاول أن نبرئ أنفسنا من الأحوال التي أصابت الأمة.. نملة نكرة أنقذتْ أمة... نملة نكرة لا تساوي شيئًا، حملتْ همّ أمتها فأنقذتْها وأخرجتها إلى بر الأمان..
إن هذا الهمّ والشعور بالمسؤولية الذي تشبعتْ به هذه النملة، هو الذي أنزل الرحمة الإلهية، ورفع عن قومها البلاء والمصيبة. ثم نأتي إلى نقطة أخرى... هل جلستْ هذه النملة تحلل نوايا سليمان، كما يتفلسف البعض في الحديث عن نوايا بعض الأمم؟ هل قالت إن سليمان قد احتقركم، إنكم جند ضعيف فلا يبالي بكم؟ هل جلستْ أو جلس قومها يتساءلون؟ بل إنها لو سكتت لفعلتْ خيرًا... فكيف وقد برّأت سليمان عليه السلام وجنوده، قالت: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾(النمل:18)، أنا لا أتهمهم في نياتهم، مع أنهم سيحطّمونكم، سيقتلونكم، سيقضون عليكم... لكن ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾. هل قال النمل: أنت تريدين السلطة، تريدين العلوّ، تريدين الشهرة؟.. لا.. بل استجاب النمل ودخلوا مساكنهم ونجوا بدعوة هذه النملة الصغيرة. ومن خصائص النمل، جدّيتها وصبرها عند بناء بيوتها، حتى إن البيت من بيوت النمل يسقط فتعاود فورًا بناءه مرة أخرى، ثم يسقط فتعاود بناءه مرة ثالثة ورابعة حتى يستقيم البيت...
يذكر المؤرخون أن تيمرلنك -القائد المعروف- هُزم في معركةٍ من المعارك، فتفرَّق الجيش وتشتّت، فما كان من تيمرلنك إلا أن هام على وجهه حزينًا كئيبًا... ذهب إلى إحدى المغارات وجلس فيها يتأمل فيما وصل إليه حال جيشه... وبينما هو مستغرق في تفكيره إذا بنملة تريد أن تصعد على حجرة ملساء، فسقطتْ، حاولت المرة الثانية فسقطتْ، والثالثة فسقطتْ... بدأ يرقب هذا المخلوق الصغير... تابع تيمورلنك النملة حتى صعدتْ في المحاولة السابعة عشرة؛ فقال: والله عجيب!.. نملة تكرر المحاولة قرابة عشرين مرة، وأنا أُهزم وجيشي من المرة الأولى؟! ما أضعفنا وما أحقرنا... نزل من المغارة وصمّم على أن يجمع فلول جيشه، وأن يدخل المعركة، وأن لا ينهزم ما دام فيهم حي واحد، ومنظر النملة ماثل في رأسه... جمع قومه وتعاهدوا على دخول المعركة، وعلى ألا ينهزموا ما دام فيهم حي واحد... دخلوا المعركة بهذه النية وبهذا التصميم... فانتصروا في المعركة.
وأجمع علماء الأحياء على أن النملة من أكثر المخلوقات جديةً وحزمًا. فهل رأيت عزيزي القارئ يومًا من الأيام، نملة نائمة في الطريق؟ هل رأيتم يومًا من الأيام نملة واقفة تتفرج؟.. ما ترى النملة إلا جادة في مسيرتها، وجادة في كل حركة من حركاتها. ونحن أحوج ما نكون لهذه الجديّة؛ نحتاج إليها في طلب علم، في أعمالنا ووظائفنا، وكل أمور حياتنا... ومن صفات النملة، التعاون... فإذا رأيتم عشرًا من النمل يمشون، فهل ترون كل واحدة تمشي وحدها أم أن النمل يخطُّ خطًّا واحدًا، فتجد عشرين أو ثلاثين نملة أو أكثر قد خطت خطًّا واحدًا مع بعضها البعض: تأبى الرماحُ إذا اجتمعْنَ تكسُّرًا وإذا افترقْنَ تَكَسّرتْ آحادًا
أليست هذه دروسًا لنا نستفيد منها؟! فهل من معتبر؟!